القدس العربي
بعد 36 عاماً من الرحيل عبدالحليم حافظ يعيش بيننا... صوت وثورة وآهات!
2013-03-19
ب
القاهرة القدس العربي من كمال القاضي: برغم مرور 36 عاماً على رحيل عبدالحليم حافظ لاتزال طقوس الاحتفال بذكراه قائمة وإعلان حالة الطواريء بمعظم المحطات الفضائية الرسمية والخاصة هو التقليد السنوي الدائم منذ وفاة المطرب الكبير في 30 مارس من عام 1977.
المدهش في هذه المرة أن الحنين الى زمن عبدالحليم تزايد الشعور به وعبر عن نفسه في صور شتى، ربما أهمها الاحتفال المبكر قبل حلول الذكرى بأكثر من عشرين يوما، والتحدي الواضح لمتغيرات الواقع التي تفرض نمطاً ثقافياً جديداً وتحرم الغناء والموسيقى وتحشر المبدعين في زمرة العصاة والمذنبون.
هذه لدعاوي الجاهلة لم تستطع منع محبي العندليب الأسمر في مصر والوطن العربي من الاحتفاء بذكراه العزيزة التي تواكب بداية الربيع وتفتح الزهور واعتدال المزاج الفني، ربما ما يميز احتفال عام 2013 اصطباغه بالصبغة الوطنية لكونه العام الثاني بعد الثورة، وهو ما يستدعي اجترار التراث الوطني لصاحب الحنجرة الذهبية التي شدت بأحلى وأجمل الأغنيات الثورية فكانت تأريخاً لمرحلة مهمة من مراحل النضال ضد المستعمر والغازي ومؤشراً على نهضة موسيقية وغنائية حقيقية أعلت من شأن الإبداع الفن بكل فروعه وأشكاله.
ولأن عبدالحليم حافظ كان أحد رموز هذه النهضة فقد ارتبط اسمه ليس بالفن الراقي فقط، وإنما بالتاريخ الانتقالي للأمة العربية قاطبة، حيث كان صوته لسان حال الثورات، بدءاً من ثورة يوليو في مصر ومروراً بثورة الجزائر واليمن، فالأغنية الوطنية هنا لعبت دوراً ريادياً في قيادة الشعوب وأسهمت في إثراء الوعي الثقافي والسياسي، ولم تكن عبثاً أو مجوناً أو لهواً عن ذكر الله كما يحسبها الحكام الجدد من ذوي المرجعيات الدينية المنتمية لتيارات الإسلام السياسي.
نشيد وطني الأكبر أحد إبداعات وانجازات الفنانان الكبيران عبدالحليم وعبدالوهاب، هذا النشيد يجسد أواصر الوحدة بين الشعوب العربية ويؤصل لعمق ثقافاتها وفنونها، وقد حقق في وقته ما عجزت عنه السياسات والمبادرات الدبلوماسية، ومازال إلى الآن يمثل النموذج الأمثل للحمة الإبداع العربي بمختلف دلالاته ومذاقاته، ومن ثم فإن الزعم بحرمانيته أو حرمانية ما يشبهه أمراً مجافياً للمنطق ومتعارضاً مع الطبيعة البشرية المفطورة على الابتكار والفن والتذوق.
الأمثلة كثيرة ومتعددة في ملاحم حليم الوطنية فهو من جسد بصوته التعبيري الآخاذ سيرة البطل الشعبي أدهم الشرقاوي في الفيلم الشهير الذي عرض صوراً مشرفة من مناهضة أدهم للاحتلال الانجليزي وعملائه، وهذا الفيلم على وجه التجديد لاقى قبولاً وتجاوباً من الطبقات الشعبية التي يمثلها أدهم الشرقاوي فصوت عبدالحليم وأدائه الشجي كان عنصراً فاعلاً في عملية الشحن والتعبئة المعنوية.
وبتنوع آخر مارس مطرب القرن نفس الدور في أغنيات حفظها جمهور الخمسينيات والستينيات عن ظهر قلب إذ كان من ينها 'ثورتنا المصرية، وهي بداية نبوغه في هذا المجال وبستان الاشتراكية ويا بلدنا لا تنامي ويا أهلاً بالمعارك وحكاية شعب وذكريات' وغيرها من كنوز وأيقونات رفقاء الدرب، عبدالرحمن الأبنودي وكمال الطويل وبليغ حمدي وأحمد شفيق كامل ومحمد الموجي وصلاح جاهين.
وبتأثير الأغنية وفي ظل إشعاع ثورة يوليو نشطت السينما ايضاً، وكالعادة احتل فيها عبدالحليم حافظ موقع الصدارة فقدم أول افلامه مع القدير حسين رياض والفنانة شادية 'لحن الوفاء' ليضع قدمه على أول سلم المجد كممثل ثم تعددت نجاحاته بعد ذلك في أعمال سينمائية كبرى مثل بنات اليوم وأيامنا الحلوة والخطايا ودليلة والبنات والصيف ومعبودة الجماهير الى ان وصل محطته الأخيرة في فيلم 'أبي فوق الشجرة' وهو الأطول عمراً في شباك التذاكر والأعلى إيرادات بين أفلامه مجتمعة.
يكمن سر شخصية الفتى اليتيم الموعود بالمجد والمرض في ملامحه المصرية الخالصة وجسده النحيل المثير للتعاطف وصوته الرائق الممسوح بالحزن وحساسيته المفرطة ونشأته البائسة بين الملجأ وبيوت العائلة والأشقاء، كل هذه العوامل هي مؤثرات حليم الإنسانية التي بفضلها تربع على قلوب الملايين من المحيط إلى الخليج وجعلته يعيش ضعف عمره ليظل بيننا يؤثر فينا بعد رحيله ب36 عاماً.
هكذا يتحدى الفن الحقيقي ورواده محاولات التهميش والاغتيال ويخلد أصحاب المواهب الاستثنائية في التاريخ الفني رغم أنف المتربصين بهم والداعين إلى زوالهم، ففي النهاية لا يصح إلا الصحيح.